Menu

عام على الطوفان: أبجديات اليوم التالي العربي 

د. وسام الفقعاوي

مجلة الهدف - فلسطين المحتلة

شكل طوفان الأقصى الفلسطيني؛ أكبر وأوسع وأشمل هجوم تعده وتقوم به، إحدى حركات التحرر الوطني الفلسطيني، ممثلة ب حركة حماس ، بحيث فرض الطوفان معادلات جديدة على صعيد الوضع الفلسطيني، ومنه إلى العربي، الذي كشف عن مستوى ما وصلته أنظمته من تخاذل وتآمر وتحالف مع العدو، من جهة، ومستوى قدرة قوى المقاومة الشعبية، أن تترجم وحدة ساحاتها في الاسناد والمواجهة المفتوحة معه، من جهة أخرى؛ بالتزامن مع عودة السجالات الفكرية وخطابات التقاذف الطائفية والمذهبية، وكأنها ما تزال بكرًا في تربة خصبة لم يَكفِها أربعة عشر قرنًا من التطاحن الفتنوي، إلى ما رسخه؛ أي الطوفان، من عودة الصراع إلى جذره الأساسي مع المشروع والوجود الصهيوني الذي يسبق وجوده الفعلي وحدد طبيعة الراهن العربي، الذي شرط القدرة على مواجهته وتحقيق الانتصار التاريخي عليه؛ مرهون برسم أبجديات يوم عربي، يقطع مع الرسم الاستعماري - الصهيوني - الإمبريالي الغربي... ويصيغ معالم طريق لغدٍ عربيٍ حرٍ ومزدهرٍ.

الأيديولوجيا والسياسة الصهيونية: مَن مرجعية مَن؟ 

تضفي طبيعة الصراع وخصوصيته بعدًا جديدًا للمفاهيم - السياسات المتداولة حوله، وهنا تبدو حاجة للتذكير بأن خصوصية الصراع تعود إلى طبيعته، بوصفه صراع وجود ويقوم منذ البداية على قاعدة النفي والنفي المضاد. وعلى هذا الصعيد، فإننا لا نتحدث عن أهداف أو شعارات سياسية، بل عن جوهر الصراع وأساسه الموضوعي والأيديولوجي، أكثر من ذلك مبرر الوجود أصلًا. وبهذا المعنى؛ فلعلنا بفعل الأيديولوجيا والممارسة الصهيونية أمام نموذج فريد في التاريخ، حيث يتوقف وجود ذات معيّنة على نفي الآخر، وأن الوجود يكتمل باكتمال نفي الآخر، ما يستدعي إلقاء الضوء الكافي على حقيقة أخرى من حقائق الصراع وهي أنه من طبيعة تاريخية شاملة، وبناء عليه؛ فإن من اِعتقد أن "الخيار الأسوأ قد وقع" وأننا "وصلنا قعر الهزيمة - الاستسلام" أو وصلنا إلى نهايته بالضربة القاضية، خاصة بعد الولوج الرسمي الفلسطيني والعربي في نهج التسوية، من بوابة اتفاقات مدريد - أوسلو وصولًا إلى أبراهام وما قبلهما وما بينهما، وما ترتب عليها، من محاولة "لإنتاج عربي/فلسطيني جديد"؛ فقد جاءه هجوم/نصر السابع من أكتوبر؛ ليعيد تشكيل بديهة واضحة، أن باب الصراع لم يُقفل، وما يزال مفتوحًا على مصراعيّه، وأن الفلسطيني والعربي كذلك، لا يتجدد إلا في إطاره وبالمعنى الإيجابي للكلمة، ووصول الصراع إلى مرحلة الاحتدام التاريخي؛ بضرب أسس المشروع والوجود الصهيوني وإصابة الذاتية الصهيونية في مقتل، وكشفه في المقابل عن مستوى فاشية السياسة والأيديولوجيا الصهيونية، بحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المستمرة في قطاع غزة؛ بحيث تضعنا هذه الحرب أمام مهمة؛ تتجاوز بذل الجهد لإدراك قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، إلى محاولة التعرف أكثر على ماهية إسرائيل؛ المشروع والتجربة، ليس لناحية ميزان القوى فحسب، بل وهنا الأهم، لناحية المرجعية الفكرية للمشروع والتجربة والممارسة الصهيونية. 

لقد جرى تاريخيا؛ إيجاز "إسرائيل" بوصفها باطل ولكن قوي، وأننا حق ولكن ضعيف، هذه قراءة الأغلبية الكبيرة لهذه المسألة، وبناء عليه، كان التشديد على ضرورة استحقاق الحق وإنجاز توازن مفقود بين القدرات والرغبات، وبين الواقع والأيديولوجيا؛ توازن لا يخفي قناعة، بأنه لن يتحقق إلا عبر تنشيط الواقع من ناحية، وكبح الأيديولوجيا من ناحية أخرى وصولًا لقرار سياسي مناسب، لكن قراءة العدو/إسرائيل لنفسها، وكما تدل الممارسة، هي أن الصراع هو بين حق وباطل، ولكن مع تعديل باتجاهين: أن الحق لها وأنه من طبيعة إلَهية.

لا يَطرحَ ما تقدم، مكانة الأيديولوجيا في حياة "إسرائيل"، بل طبيعة الأيديولوجيا ودورها في تحديد وجود وماهية إسرائيل؛ فإذا كانت العلاقة بين الأيديولوجيا وبين الواقع عندنا، قامت على قاعدة الكبح المتبادل - التناقض، إن بفعل الجهل أو بحكم طبيعة الأمور واتساع الفجوة على نحو هائل بين الرغبة والقدرة، فكان الكبح والتناقض؛ فالأمر يختلف بالنسبة "لإسرائيل" التي وعى قادتها وعلى نحو مبكر، حقيقة المسافة الشاسعة بين الواقع والأيديولوجيا؛ الرغبات والقدرات، ووعوا كذلك أهمية إقامة علاقة ايجابية بين البعدين المشار لهما ومن ضمن سياسة بعيدة المدى وتراكمية هدفها جسر المسافة محل التناول، والحصيلة؛ علاقة تحفيز متبادل بين المادي والأيديولوجي، كانت نتيجتها إعادة إنتاجهما وعلى نحو أكثر قوة ومغالاة ووحشية وفاشية لم يشهد مثلها العصر الحديث والمعاصر. طبعًا، ليست "إسرائيل" هي الدولة الوحيدة في العالم التي تؤمن بأيديولوجية ما، ولكن الحقيقة هي أنها نموذج الدولة الأيديولوجية، وحيث تقوم الأخيرة على أُسس إلهية؛ أيديولوجيا لا تقدم تبريرًا أو تؤسس لشرعية الدولة وضرورة قيامها فحسب، بل تعود لتتوسل إمكانات الأداة التي أنتجتها، لإعادة إنتاج نفسها؛ أي الأيديولوجية، في حيز الواقع. بكلمة أخرى، لقد أطلقت الأيديولوجية مشروعًا سياسيًا ما أن وجد طريقه في حيز الواقع وحقق نجاحًا، إلا وعاد ليحرر الأيديولوجيا من قيود الواقع وعلى نحو متسارع بلغ حد الانفلات والجنون من وجهة نظرنا، ولكنه تطبيق لوعد - إرادة إلهية من وجهة نظر أصحابها..! 

يسود بيننا مفهوم مُعزز بالممارسة، يقوم على أن الأيديولوجيا والكلام والوعود السياسية شيء، والسياسة قيد الممارسة شيء آخر، هذا الشائع لا ينطبق على "إسرائيل"؛ الدولة الأيديولوجية التي لا تستطيع أن تكون إلا مع نفسها؛ مع ماهيتها؛ مع أساس وجودها المستند لأيديولوجية تقوم على حق إلهي من ناحية وميزان قوى من ناحية أخرى، يُلبي نزوعها للتجسّد والاكتمال في حيز الواقع. ولعل هذا، بين عوامل أخرى، هو ما يؤكد الطبيعة المفتوحة للصراع، وبالتالي استمراريته وتجدده انطلاقًا من عاملين هما: العدو الساعي لتحقيق نفسه وممانعة ومقاومة الضحية، إن في بحثها عن حقوقها المسلوبة أو وجودها الراهن؛ المهدد تحت وقع المقتلة والإبادة الجماعية. وبهذا المعنى، فإن أي نجاح في منع العدو من استكمال أهدافه المعلنة والكامنة، أي القدرة على الدفاع، إنما هو برهان على وجود الهدف محل سعي العدو للإلغاء أو النفي، ليس ربطًا بنزعات توسعية في المشروع الصهيوني، بل بحكم طبيعته وماهيته القائمة على أن تحقيق المشروع الصهيوني لذاته هو بمقدار إلغائه للآخر، الذي هو وفق الأيديولوجية التوراتية، ليس إلا غريبٍ ومعتدٍ على حق إلهي لإسرائيل في الأرض ومن عليها. لا يفسر لنا هذا شراسة العدوان واستمراره فحسب، بل اعتبار أي وجود غير يهودي فوق "أرض إسرائيل"، بمثابة خطر وجودي على المشروع الصهيوني نفسه، ومن هنا أَعلنَ قادة العدو، بعد السابع من أكتوبر، بأنهم يخوضون إلى جانب حرب الوجود؛ حرب تأسيس دولة إسرائيل الثانية، وتغيير وجه الشرق الأوسط. 

نخلص في ضوء ما تقدم، إلى التأكيد على طبيعة مشكلة "إسرائيل" وخصوصًا لناحية أنها ليست معنا فقط، بل هي مع ذاتها وتعود أصلًا لمحاولة إعادة إنتاج الواقع لِيُناسب الأيديولوجيا وليس العكس. وبناء عليه، ضرورة تجديد مفهومنا للصراع وأسبابه المباشرة تبعًا لكل مرحلة، وهو الأمر الذي يستدعي التدقيق في مسألة هامة ألا وهي: هل إسرائيل ونحن بدورنا أمام مشكلة تاريخية تعود لـ 1948 أو 1967 أو 1978 أو 1993 أو 2023؟ أم أننا أمام مشكلة موضوعية متجددة، ليس ربطًا باستمرار ذيول المشكلة التاريخية فحسب، بل استنادًا إلى أسباب جديدة هي نِتاج استمرار المشروع الصهيوني في محاولة استكمال نفسه أيضًا؟ 

يعيدنا ما تقدم، إلى فكرة مركزية؛ مفادها إحالة كافة الممارسات والنتائج السياسية، وبغض النظر عما إذا كانت سلبية أو ايجابية، إلى جذورها - مرجعيتها الفكرية، وفي الحالة قيد البحث، فإن ما يجب أن لا يغيب عن الذهن ولو للحظة أن مرجعية الصراع مع العدو/إسرائيل هي الأيديولوجية الصهيونية، التي عدَّها القرار الأممي 3379 المُلغى بقرار أوسلوي فلسطيني: "بأن حركتها عنصرية، ويجب مقاومتها بالقوة المسلحة" وأن ما عدا ذلك، من ترجمات عملية إسرائيلية أو ردود فعل فلسطينية أو عربية على هذا الصعيد، ليست إلا تداعيات منطقية – موضوعية، لمرجعية الحدث الفكرية، أي الأيديولوجيا الصهيونية والديناميات التي أطلقتها وتطلقها باستمرار. وبناء عليه؛ فإننا عند التقييم والتقدير والتقرير، لا بد وأن ننطلق، ليس من هذا الحدث السياسي أو ذاك مهما كان كبيرًا وما قد يؤشر عليه باتجاه أو آخر، بل من المرجعية الفكرية للعملية برمتها؛ عدا ذلك يوقعنا في خطيئة النظرة المقلوبة للأمور، وإحالة السياسة العليا للسياسة الجارية وليس العكس؛ والأخطر أن نُحملَّ الذات/المقاومة مسؤولية الحدث، هنا تأتي مكانة الأيديولوجيا الصهيونية بوصفها مرجعية السياسة العليا، ومكانة الأخيرة في تقرير السياسات الفرعية والجارية، ولعل السؤال: ما مبرر العودة لهذه البديهة الفكرية؟

إن حسم هذه الإجابة/النقطة، هو الذي يعيد المسائل إلى استقامتها ويوضح ما الذي يريده العدو، وما الذي علينا عمله؛ فمع إعادة المسائل إلى جذرها الفكري، لا نعود أمام أي شك حول عناوين بارزة، من نوع: مفهوم المشروع الصهيوني، بالمعنى الحصري للكلمة، أي نزوعه، بحكم طبيعته، للتوسع واستكمال نفسه، وهو ما يعني أن باب العدوان/الصراع مفتوحًا على مصراعيه، ومتجددًا وكأنه بدأ للتو، أما محل العدوان/الصراع وهدفه فهو وجودنا بكامله، وعلى قاعدة مسعى العدو لنفينا؛ المادي والمعنوي، كخيار وحيد لتأكيد ماهيته وتحقيق حضوره – وجوده. وهنا ثمة حاجة ضرورية للتوقف عن كذبة أطلقها العدو وجرى الترويج لها؛ فصدقها من صدقها، وروج لها بيننا من روج؛ كذبة نجد تلخيصًا لها في سؤال حول: من بدأ العدوان؟ والطرف الرئيسي فيه؟ وحقيقة اللاعبين على مسرح التاريخ السياسي للمنطقة؟ واختلاط الأدوار وتداخلها، بل انقلابها، حيث تقمص الذئب ثوب الحمل وأعطانا نحن مَظهَر الذئب ودوره (حيوانات بشرية ودواعش، حسب قول قادة العدو بعد هجوم 7 أكتوبر)؟ سؤال قد يبدو للبعض غير ذي أهمية وهو: مَن ضد مَن؟ هل نحن ضد إسرائيل والصهيونية؟ أم أن إسرائيل والصهيونية ضدنا، ومن هنا بدأت الرواية إلى لحظة/مرحلة الاحتدام التاريخي للصراع القائم على أرض فلسطين ومجمل مساحتها؟ 

ينفع هذا التأكيد - التساؤل الأخير في تشكيل أساس مواجهة سياسية – فكرية – أخلاقية – إعلامية ناجحة، ضد العدو وحلفه المعادي، والمثقفين والكتبة الذين ينطلقون من ذات القاعدة، الذي طالما استثمر، وعن غير وجه حق؛ صورة الضحية التي قدم نفسه من خلالها؛ ناهيكم عن صورة دولة المساواة والديمقراطية والتقدم، في حين أن إسرائيل/العدو، إن بحكم الأيديولوجيا التي تستند إليها أو بحكم ممارساتها/وحشيتها/فاشيتها، هي ربما؛ آخر النماذج في العالم للدولة الأيديولوجية، على نحو رسمي ومعلن ومشهود، وحيث مفهوم الدولة مُستغرق في مفهوم الأيديولوجية القائمة على أسس دينية وعرقية – عنصرية في آن؛ باتت صورتها تلك واضحة، حتى في أكثر الدول الغربية ديمقراطية، التي عَجَت ساحاتها وميادينها كما جامعاتها بالموقف المعادي للصهيونية وذراعها إسرائيل.

عندما نقدم الأيديولوجيا على الواقع: يغيب العقل 

لا أسعى هنا إلى عقد مقارنات بين تيارات فكرية - سياسية، لإبراز مترتبات الاختلاف بين مناهج التعاطي، على فهم طبيعة الصراع واستطرادًا على كيفية إدارته وتوفير مستلزماته، وهذا ما يعيدنا إلى مسألة بسيطة وإن كانت على قدرٍ عالٍ من الأهمية وهي: هل الصراع الذي دار ويدور هو بين حق وباطل؟ أم أنه بين قوي وضعيف؟ 

تنبع أهمية السؤال المطروح من مترتبات الجواب على الخطوات واجبة الإجراء، وخصوصًا لناحية سد الفجوة المطلوب جسرها، والتي هي فجوة مُركبة، بل ملتبسة، وإن كنا لم نُعر ذلك يوًما الأهمية التي تستحقها. ينبع الالتباس من أن الفجوة هي لصالحنا، كما نعتقد على الأقل، حين يُنظر للمسألة من زاوية قضايا الحق والباطل، ولكن الأمر ينقلب كليًا حين تتم الأمور انطلاقًا من قانون القوي والضعيف. في هذا السياق، تأتي مكانة القول بـ "استحقاق الحق" الذي يحتاج بدوره، على ما يبدو، لتحديد دقيق: هل يكون استحقاق الحق بمزيد من التمسك به وبرهنته، ربطًا بمقولة أن الصراع يجري بين حق وباطل فقط؟ أم أن استحقاق الحق يكون بجسر الفجوة في ميزان القوى وتمليك الحق قوة يحتاجها ليصبح واقعًا أيضًا، وذلك انطلاقًا من حقيقة أن الصراع يجري بين قوي وضعيف فعلًا، وهذا دور القوى والأحزاب السياسية التي تخوض/تنطلق من كونها حركات تحرر وطني، ألا وهو تسعير التناقضات/الصراع مع العدو، وليس تحفيز وتسعير التناقضات الفكرية والسياسية في داخلها/ذاتها/حركتها/شعبها؟ 

ولو أوجزنا لقلنا: أن طبيعة الصراع وإدارته لا بد وأن تتم انطلاقًا من مفهوم صحيح وشامل للصراع وبوصفه بين حق ضعيف وباطل قوي، وأن هدف أي إدارة للصراع لا بد وأن ينصب على كيفية جعله يدور بالمعنى النسبي، بين حق قوي وباطل ضعيف في أحسن الحالات، وبين حق أقل ضعفًا وباطل أقل قوة في أسوأ الاحتمالات. 

إن مصدر الانتهازية ليس في التمسك بقانون الحق والباطل، بل في سوء استخدامه وابتذاله، في التذبذب بين القواعد تبعًا لاعتبارات ذاتية، ليس أقلها إعفاء الذات من عمل الشيء المطلوب؛ ما دام الصراع بين "حق مطلق" و "باطل مطلق".. وهنا نجح التيار الأيديولوجي الديني في الساحة الفلسطينية، ممثلًا بوضوح في حركة حماس؛ أي (الرجعيين والظلاميين والمرتبطين بأجندة التنظيم الإخواني)، كما نقول نحن التقدميين والمتنورين والملتصقين بقضيتنا الوطنية والممثلين لها..! وهنا لا تعود المسألة مسألة انتهازية أخلاقية وفكرية فحسب، بل مسألة سياسية من الدرجة الأولى وما يترتب على ذلك من حالة تشويه تاريخي لطريقة إدارة الصراع؛ تستجيب لمقتضيات الصراع والقواعد التي يجري بناء عليها في حيز الواقع، وهنا استطاع التيار الأيديولوجي/حركة حماس، التي أطلقنا عليها كل الأوصاف السابقة، في فهم دوره كحركة تحرر وطني، وأن يستجيب لمتقضيات الصراع ويجسر الفجوة المتسعة بينا وبين العدو، في حين تسمّر البعض من التقدميين والمتنورين، ليس من هول صدمة ما جرى يوم السابع من أكتوبر وبعده، بل كونه يفضح؛ الفهم الحقيقي لإدارتهم للصراع واستحقاقاته؛ دون أي انفصال مُفتعل عن كل التضحيات الكبيرة والجسيمة التي قدمها هؤلاء، وهنا أَفصِلُ تمامًا بين مواقف القوى والفصائل التي اتخذت موقفًا داعمًا ومشاركًا في هجوم/نصر 7 أكتوبر، وبين بعض القوى التي اتخذت موقفًا مضادًا، سواء لأسباب سياسية أو أيديولوجية، وكذلك بعض المواقف التي صدرت على ألسنة المثقفين والكتبة، ممن يحبون أن ينعتوا أنفسهم بالواقعيين أو الموضوعيين، وأكثريتهم بالطبع من تيار التسوية الواقعي والموضوعي أيضًا..! 

من نافل القول، إنني أتبنى المفهوم العلمي لتعبير "واقعي - موضوعي"، الذي يتسع للتاريخي والأيديولوجي والمعنوي كما للمستقبلي والمادي، وفي معرض الصراع وطبيعته الوجودية مع العدو، لا يكون للواقعية أو الموضوعية، أي دلالة حقيقية إن لم تكن ثورية، أما غير ذلك؛ فهي وقوعية وموضوعية استسلامية - انتهازية، ليست للواقع وميزان القوى والتنظير للتسوية فحسب، بل قد تُوصل لشرك الوقوع في رؤية/مواقف العدو، من حيث يحتسب المرء أو لا يحتسب، وهذا بدوره يضعنا أمام مسألة غاية في الخطورة والأهمية، وضرورة وعيها، وهي أن التناقض البارز على هذا الصعيد وعلى نحو ما ذُكر أعلاه، هو التناقض داخل الذات الواحدة، حيث يقوم بعض ما، بتشويه ما عداه بدلًا من التكامل - التفاعل الايجابي معه، والحصيلة؛ انقسام الضمير الجمعي والفردي - الشخصية الجمعية والفردية بين اليقينيات - الأبعاد المختلفة، التي وإن طغى أحدها، لكنه ولأسباب موضوعية لا يستطيع إلغاء ما عداه، بل قمعه أو كبته، مع ما لكل ذلك من مفاعيل تدميرية، وهذا أمر مارسه الجميع بلا استثناء، وبتفاوت بالطبع له علاقة؛ بمحددات القوة والسطوة الجماهيرية وامتلاك السلطة ومقدراتها المادية والمعنوية. 

يكمن فيما تقدم؛ أخطر أشكال التشويه والقمع وأكثرها شمولية ومأساوية، حيث تتكفل الذات الواحدة بتدمير نفسها - شل فعاليتها؛ بعد ذلك، لا توجد أية غرابة في ظهور نتائج تتراوح بين انعدام تراكم الطاقات وتكامل الجهود والانفصال وعدم التواصل، وبين مشاريع حروب أهلية مُعلنة أو مضمرة، كبيرة أو صغيرة لا فرق، داخل الذات الجمعية أو داخل الذات الفردية. والحال هذه، لا نعود أمام خطأ فكري أو نفسي أو سياسي أو أيديولوجي، بل أمام كُلفة اجتماعية - وطنية غير قابلة للتعويض؛ خاصة وأن القوى الأبرز حاليًا في المجابهة مع العدو الصهيوني، هي التيارات الدينية السياسية، وهنا يقع جوهر التقاطع بين التيار الديني والتيارات القومية والوطنية ذات الطبيعة العَلمانية التي ترى بفلسطين قلب العروبة ونبضها، وكموازٍ مقدس لمكانة فلسطين، عند الإسلام والمسلمين؛ يلتف حول هؤلاء، بل ويعبرون عن قاعدة جماهيرية واسعة لها كل الأسباب التاريخية والراهنة؛ الفكرية والمادية والمعنوية، لإسناد نفسها حين تساند الطروحات الفكرية القائمة، على مبدأ صراع الحق والباطل؛ الخير والشر وترجمتها السياسية من فعل مباشر؛ نجد تعبيرًا لها في كل ذلك الترحيب الذي لقيه ويلقاه أي عمل يُلحق الضرر بالعدو ويعبر عن ممانعة ومقاومة جدية له. 

لعل اللازمة التي تتكرر بشكل ثابت وعن حق، هي ضرورة إحالة مشاكل وأزمات الشعب الفلسطيني لجذرها السياسي والعدوان الذي واجهه ويواجهه... هذا صحيح، ولكنه قدر الشعب الفلسطيني ومحل صراعه، وهنا تقع مسؤولية العامل الذاتي في مفاقمة أو مواجهة الحال الذي يتعرض له عبر أشكال شتى؛ منفردة أو مجتمعة من إبادة وتطهير واستئصال واقتلاع واستلاب وتبديد وجود وإلغاء هوية وتفتيت... الخ، من أوصاف لم تطلق عبثًا. وعليه؛ فإن الفرضية محل الاختبار هي دور العامل الذاتي في تخفيف أو تسعير وضع الأزمة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، والذي أبدى ويبدي قدرًا عاليًا من الممانعة الطبيعية، فإنه ينتظر من تعبيراته السياسية وما زال، أن ترتقي نحو إدارة صراع يصل بهذا الشعب إلى أهدافه، لكن ما جرى هو إبراز عوامل تعدد أبعاد شخصية المجتمع كمتناقضات وتحول بفعل ذلك، إلى ازدواجية سلبية داخل الذات الواحدة التي صار عليها أن تنقسم بدل أن تتوحد وذلك بفعل تحفيز الأدوات السياسية التي توسلت التناقضات لتبرير وجودها، مع أن مبرر وجودها هو حل التناقضات لا تسعيرها، وحفظ التوازن بدلًا من التسبب في مزيد من الاختلال والمواجهات، غير المبررة داخل الذات الواحدة، وهذه وقع بها الجميع أيضًا، بلا استثناء، وهذه هي حصيلة إسقاط الذاتي على الموضوعي والأيديولوجيا على الواقع الذي تعرض منطقه الداخلي الموحد والمتماسك لتفتيت وتجزئة وتوزع يقينيات وشرعيات جزئية ومعادلات نصفية؛ تولف من الواقع والأيديولوجيا ما يناسبها؛ مدعيّة أنه كامل الحقيقة وصافي العقيدة. 

وفي النقطة المحددة، أي وضع التيار الأيديولوجي، فإننا لا نقف أمام مجرد تجربة أخرى، بل أمام واحدة من ثلاث خيارات خاض الشعب الفلسطيني نضاله في العصر القريب تحت لواءها؛ قد تعني التجربة المحددة، ظاهريًا اسمًا أو آخر، ولكنها في الجوهر تجربة وطنية، حتى وإن سجلت على التيار الأيديولوجي، ولا يخطئ من يلخص بها تجربة الإسلام السياسي كما يصر بعض كثير؛ بينه من يحتاج إصراره لحذر كبير واستجلاء متأن جدًا عند التعاطي معه والنظر إليه؛ حذر يصل درجة الريبة، مع غير دليل على أن هنالك من لا يريد قراءة تجربة، بل تصفية الحساب معها. هنا، يمكن أن يتشعب النقاش، ولكن يهمنا أن نؤكد على التالي منه: 

(أ) مكانة الأيديولوجيا كمبدأ والإسلام على وجه الخصوص كبعد تكويني في الشخصية الجمعية الفلسطينية وبالتالي فهو شأن وطني، مسؤولية الجميع والتقدميين العَلمانيين خصوصًا؛ حفظ مكانة هذا البعد بالغ التأثير والأهمية في صراع جاري يحتاج أكثر ما يحتاج الكف عن النفاق الحضاري والتوجه للصراع الحضاري، عبر تجسيداته الواقعة عيانًا. 

(ب) ضرورة تقديم نموذج علمي وأخلاقي لقراءة تجربة المنافس/الخصم السياسي، ليس احترامًا لمبدأ النزاهة الفكرية والأخلاقية فحسب، بل أيضًا تجسيدًا للبعد الوطني لتجربة الآخر، الذي إن سمحت له ذهنيته الانتقائية والشعبوية بتعميم الجزء على الكل وادعائه احتكار تمثيل الأيديولوجيا ومعها الدين، فإنه لا يجوز لمنافسه، مع توفر القدر المطلوب من الوعي والمسؤولية أن يستكمل انتقائية الآخر؛ فيقوم بإسقاط كامل الأيديولوجيا. 

(ج) بناء عليه، يمكن القول أن تجربة "التيار الأيديولوجي" قد بدأت ملتبسة وقد تنتهي "مأزومة"، إن لم تكن هي فعلًا كذلك، ليس لأنها أيديولوجية أو إسلامية كما وصفت نفسها، بل من كون كل هذا لم يكن أكثر من إطار - عنوان عام؛ توسل ومنذ البدء ما يكفي من "الأيديولوجيا" السياسية والعملية السائدة، ومنها "أيديولوجيا" السلطة - القيادة التاريخية، لإعادة إنتاج الذهنية والممارسة الشعبوية التي تستهدف كسب التأييد السريع؛ أكثر مما تعبر عن رؤية تاريخية من طبيعة ملموسة، وهنا تأتي التباسات التأسيس وافتعال الفتنة الداخلية، قبل الانتفاضة الشعبية عام 1987، وطرح نفسه كبديل خلالها للكل الوطني، وصولا للصراع الدموي في السلطة وعليها، وتجربتها المريرة في السلطة، وموقع وثيقة 2017 التي تجاوزت من خلالها وقفية فلسطين إلى تجزئتها، وموقفها من بعض صراعات المنطقة... وبهذا المعنى، فإن قراءة منصفة ونزيهة لتجربة "التيار الأيديولوجي" هي في الجوهر خدمة للأيديولوجيا وحماية لها من "الأيديولوجيا" أيضًا. 

ماذا يمكن أن نستنتج من كل ما سبق، وفي ضوء التجربة والحصيلة التاريخية المحققة؟ 

كانت الحصيلة أن تجربة مُركبة على أكثر من مستوى تاريخي وراهن؛ داخلي وخارجي؛ وطني وقومي، ممتد لفترة طويلة وخصبة، شهدت أكثر من تحول عاصف؛ أُخضعت لمحاكمة فكرية غير كفؤة، بحيث خلت من أي منهجية فكرية وأداة تحليل قادرة على استيعاب التجربة، في تحولاتها بالذات إبان الانتفاضة الشعبية الكبرى عام 1987 وما تلاها وصولًا لانتفاضة الأقصى التي تكرس خلالها فعلها المقاوم، وكان أحد الأسباب الأساسية في فوزها الشعبي الكاسح سنة 2007، والذي كان يُوجب تتبع صيرورة الحركة وأين غدت مواقعها ومطالبها الوطنية؟ 

للأسف كانت النتيجة؛ أن عاث البعض فسادًا، ليس في التاريخ فحسب، بل في الوطنية ذاتها، لذلك كنا دائمًا "نحن" ولا شيء غير ذلك؛ وإن كان من نقد هنا، فهو أننا كنا في مرحلة "قوميين" دون أيديولوجيا قومية وأصبحنا في أخرى "ماركسيين" دون أيديولوجيا ماركسية؛ كنا شيئا من كل شيء: شيء من فروسية تراثية أخلاقية، وشيء من الجنون الطيب لكومونة باريس وعناق السماء، وشيء من حلم جميل كقوس قزح مصنوع من شمس ومطر؛ تراتبت ألوانه في الذاكرة الجماعية، عبر التاريخ؛ قديسين وشهداء؛ سلسلة طويلة لعل آخرها عز الدين القسام الخارج بإيمانه وحيدًا، إلا من بضعة رجال إلى أحراج يعبد؛ المبعوث حيًا، بعد نصف قرن باسم جيفارا وغابات بوليفيا وقبضة ناس؛ كان الهدف واحدًا: الحرية. 

كنا "نحن" ولا شيء آخر؛ لنُعانق السماء يجب أن لا تكون أقدامنا راسخة في الأرض؛ ماركس و لينين يجب أن يكونا ضد عبد الناصر، وعبد الناصر يجب أن يكون ضدهما؛ الماضي ضد الحاضر، والتراث ضد العلم، وعز الدين القسام بمهابته وصرخته في أحراج يعبد التي تردد صداها في غابات بوليفيا على لسان جيفارا: قاتلوا حتى الموت؛ موتوا شهداء؛ عز الدين يجب أن يكون ضد جيفارا، وأشجار يعبد – فلسطين، يجب وبالضرورة أن تتناقض مع أشجار بوليفيا..! كل شيء يجب أن يكون ضد كل شيء؛ أليس هذا قانون الانقسام مجانًا والقطع مع الواقع والتاريخ، وعدم معرفة كيفية إدارة التناقضات الأيديولوجية وأبعادها الاجتماعية – السياسية، خاصة في مرحلة التحرر الوطني؟ 

إن مصدر الثنائيات المتناقضة هو تناقض رؤيتنا الناقصة أو أوهامنا عن حقيقة الواقع وذاتنا، كما هي فعلًا، وهنا نبدأ سلسلة لا تنتهي من الفجوات بين القول والممارسة، بين ما ندعيه ونستطيع فعله، وبين الشكل والجوهر، بين التاريخ والواقع التي وظيفته أن يزعج نفسه قليلًا؛ فينبهنا حين يشاء وعلى حسابنا، إلى من نحن. 

بدم بارد؛ انقسمت "العشيرة" بين عز الدين القسام وبين تشي جيفارا، وأُُدخل هؤلاء، كما المسيح ومحمد إلى مزبلة الطائفية والمذهبية، والمرعيّة من الصهيونية والإمبريالية التي ضدهما الماركسية والقومية والوطنية، وتحولا إلى زعران مأجورين/أدوات عند قادة الميليشيا؛ المُقسمين بين ولاء إيراني شيعي وآخر كنسي ماروني؛ فأية ماركسية تلك التي وضعت عز الدين القسام في طرف وتشي جيفارا في طرف آخر ،وفي الوقت ذاته؛ وضعت المسيح في طرف ومحمد في طرف آخر؟! وأية قومية تلك التي يمكن أن تجمع بينهما، بعد أن فرقتهما، في عدم وعيها لشروط الوطنية الأولى؟! ألم يسمع أحد صوت التاريخ وهو يقول في ضوء التجربة السوفييتية: "أن عدم قدرة الأممية والقومية على التواؤم؛ جنون وجريمة"؟! وألم يسمع أحد أيضًا صوت التاريخ ذاته، وهو يقول: "من لم يكن وطنيًا جيدًا، لن يغدو قوميًا جيدًا"؟! 

ولسوء الحظ؛ مارسنا الجنون والجريمة في أن، وفي الوقت ذاته، الذي أشعل العدو حرب الإبادة، أشعل البعض حرب: الحاضر – التاريخ؛ التراث – المعاصرة؛ الوطنية – القومية؛ القومية – الأممية، وتماسك عز الدين القسام وتشي جيفارا من لِحَاهِما وسبب الفتنة بينهما؛ قد يكون التجاوز على الوطنية وغباء بالقومية وجهل بالماركسية كأخلاقية ومنهجية فكرية، بحيث مارسنا الجنون والجريمة حين اندفعنا إلى أقصى حد مع ذهنية القطع والتفتيت وافتعال التناقضات وتحويل كل شيء إلى مجرد ثنائيات متناقضة؛ إن دلت على شيء؛ فإنها تدل عن غياب العقل أو تغييبه، لدرجة النفخ المدجج بسلاح الفتنة، فأي مستقبل سيكون لنا مع سلاح كهذا؟!

سياستي الدفاع والهجوم بين السجال الفكري والاسناد الفعلي: 

في الوقت الذي انشغل البعض في اِشهار سلاح "الفتنة" بين محاولات تطييف ومذهبة المقاومة من جهة، والتهمة الأيديولوجية من جهة أخرى، بحيث لم نكن أمام حوادث - أطروحات جزئية، بل أمام نسق كامل لا يترك مجالًا إلا وينعكس فيه ويتشظى عنه. ومع الأسف الشديد، فإننا لسنا في سجال فكري على الورق، بل اشتباك ودم وإبادة في حيز الواقع، حيث لكل كلمة ترجماتها العملية ومترتباتها التاريخية، كما كل رصاصة وقذيفة؛ انشغلت جبهات اسناد في سجال مختلف ونقيض تمامًا ومطلوب تمامًا وفي وقته تمامًا، لم يكن لديها من ترف وقتٍ، لتحاور الخصوم والأصدقاء والأعداء الداخليين بسلاح الفتنة حتى لو كانت الأيديولوجيا نفسها، كان هناك الأولوية التي لا تتقدمها أولوية؛ مواجهة العدوان والإبادة وحفظ الوجود، عندما تأخر المترفون طائفيًا ومذهبيًا وأيديولوجيًا؛ تقدم المدججون بسلاح وعي ضرورة أن يقفوا على جبهتي الدفاع والهجوم، ضد الأعداء الفعليين؛ استجابة لمقتضيات النقطة التي وصلها الصراع واحتدامه التاريخي في لحظة/حقيقة ما وضعه يوم 7 أكتوبر أمام العدو وأمامنا، وأن الصراع دار ويدور حول الوجود نفسه، الذي أُطلق العنان للعدو كي يتصرف قولًا وفعلًا على هذا الأساس، إن تجاه نفسه أو تجاهنا. ولعل هذا بين أسباب أخرى هو ما يدفعنا لتأكيد الفكرة القائلة: بأننا لا نملك ترف الخطأ كما ترف الوقت، لأن نكون أمام سجال فكري واحد مدفوع من العدو وآخر مدفوع بالجهل وتغييب العقل، لأننا لسنا في وضع القادر على تحمل كُلفته لأنه يمس الوجود نفسه. وبناء عليه؛ كنا في كتابات عديدة سابقة؛ أكدنا وشددنا على مكانة الرؤية وضرورة الروية والدقة في تقدير الأمور وتقرير المواقف والتصرف بشكل يبقينا على أبعد مسافة ممكنة من الخطأ والمجازفة. 

إن الخطأ بشأن ما تقدم، لا بد وأن يكون مرافقًا أو حصيلةً أو تعبيرًا عن غياب سؤال فكري- سياسي أكبر، بل هو ألف باء أي فكر وعمل سياسي، عنينا سؤال: ماذا نريد؟ وبكلمة أدق، ما الذي تَسمح به المرحلة التاريخية المحددة؟ 

سؤال لا يُلقى جزافًا، ولا يحتمل أجوبة جزافية، ولا مجال بشأنه لأجوبة صحيحة خارج محددات قسرية نجد بينها: طبيعة المرحلة التي وصلها الصراع، وجوهره، وقانونه الناظم، وطبيعة ميزان القوى، والهدف/الأهداف الراهنة لطرفيه، والنقطة التي يقف عندها كل طرف... الخ. من ناحية المبدأ وقول واحد، فإن الصراع يدور حول الوجود، ومن ضمن قانون القوة، وأنه بين قوي وإن كان على باطل، وضعيف وإن كان على حق، وأن ميزان القوى مختل تاريخيًا ويزداد تماديًا وأننا في وضع دفاعي، حتى ونحن نهاجم، فهذا هو دور حركات التحرر الوطني، عبر التاريخ ومنها، بل وفي صلبها حركة التحرر الوطني الفلسطينية، والتي لم نختلف على وسائلها الدفاعية والهجومية، إلا عندما اختلفت أجندة البعض السياسية، وأصبح مطلوبًا، أن يخضع الجميع لذات الأجندة. 

ما يُؤسف له، أن تشويه المفاهيم قد طال كل شيء تقريبًا، أو هكذا المطلوب أن تغدو وتصبح أسيرة له الحالة الشعبية الفلسطينية، وأبعد منها العربية، حتى تلك المفاهيم الاستراتيجية والأساسية، من تحرير فلسطين إلى دور الشعوب إلى دور حركات التحرر. وإن كان من داعٍ للمعايير القيمية والخجل، فليس كل ما حصل من سجال من طرف واحد؛ اتخذ أصحابه موقعًا وحددوه لأنفسهم، لا يعبر وبأي حال من الأحوال، عن أية سياسة دفاعية ادعوها؛ تارة باسم الوطنية وأخرى باسم الأيديولوجيا التي ليس فقط لا تستجيب لواقع الحال، بل هي بالضد من واقع الحال المطلوب تمامًا. وبناء عليه؛ فإن أبشع أشكال خداع الذات، هو الانصراف عن تغيير الجوهر - واقع الحال غير المناسب وعلى نحو صحيح، إلى الشكل - المسميات - الادعاءات لتغطية، ليس سوء واقع الحال الخاص بهم، بل سوء التعاطي مع واقع الحال الذي كان يستدعي من الجميع أن يتقدم بالكلمة والرصاصة معًا، ولم يختاروا – للأسف – موقع التقاعس عن بذل أي جهد مطلوب في المواجهة/الدفاع، بل تمادوا – إذا ما أحسنا النية - على من قام بالمهمة والجهد المطلوبين؛ فوقعوا "كما كل مرة"، بين تركيم العجز الذاتي ومحاولة تعميمه والفشل في القراءة الصحيحة للحظة التاريخية ومتطلباتها؛ لهذا وقعوا في وحل الهزيمة الفكرية والفعلية، والبعض الآخر يقاتل على الجبهات دون هوادة، وهنا كان موقع غسان كنفاني التاريخي، عندما حدد موقع من يقاتل ومن يخون..! 

يمكن القول دون أية حذر: بأن الذهنية التي أقامت علاقة سلبية بين اليقينيات - الأبعاد الايجابية المتعددة والتي لا حد لولعها في إثارة التناقضات هي الذهنية نفسها التي تفتعل تناقضًا بين سياسة دفاعية وأخرى هجومية وتُسقط الرغبات على الواقع أكثر مما تفعل العكس؛ فضلًا عن هذا وذاك فوضى المفاهيم والمعايير وانفصال الكلمات عن الواقع والشكل عن المضمون، والحصيلة فقدان الأساس الذي يمكن بناء عليه أخذ مواقف - سياسات مناسبة، وصولًا إلى فقدان الاتزان الذي جعل فرائص عقول مثيري التناقضات، ترتعد قبل أقدامهم، فمنهم من شكك في 7 أكتوبر كفعل كفاحي وجزء من دور حركات التحرر الوطني، ومنهم من قذف المقاومة وقواها بأقسى الكلمات الحارقة، غير آبهين بلون الدم المسفوك بقذائف الموت الصهيوأمريكية، ومنهم من رأى أن الأيديولوجيا لا تتفق مع الواقع الذي جعل "إسلاميًا" يتقدم اختراق حصون العدو، بين دفاع وهجوم، لم ولن تتقنه "أيديولوجيا"؛ تجمدت أو تحنطت، عندما لم تعد تتغذى من الواقع وتجدد ذاتها منه، وعندما غدت "الوطنية" في أحد جوانب تعريفها؛ التلاقي مع أهداف العدو والاعتراف به. هنا كانت ضرورة إزالة التخوم بين السياسة الدفاعية وبين السياسة الهجومية؛ ربطا بمعايير وظيفية - علمية - موضوعية، وليست معايير أيديولوجية – قيمية، من قبل من وعوا شروط اللحظة التاريخية واحتدام الصراع المطلوب أن نُحمي سعير التناقض معه لا العكس، وهنا كان موقع لبنان و اليمن والعراق وسوريا وإيران وكل من وقف في هذه الجبهات/الجبهة وقواعدها، وفي مقدمتها الشعوب، مؤكدين بأن من لا يستطيع الدفاع عما لديه لا يستطيع الهجوم لأخذ ما له عند الآخرين، وأن أية سياسة دفاعية هي، وبحكم طبيعة المسائل ذات بعد - مضمون هجومي، وإن بالمعنى السلبي، لناحية مكانتها في إحباط مخططات العدو الهجومية، وعلى قاعدة أن كل فشل للعدو، سواء في دفاعه أو هجومه هو انتصار لنا بهذا المعنى أو ذاك... وهنا بالضبط، قدرة إدامة المعركة واستنزاف العدو وقدراته البشرية والمادية التي سيترتب عليها معاناة وآلام وتضحيات جسيمة، لم يبخل بها شعبنا أو تبخل بها أمتنا يومًا، على طريق الانتصار العظيم.

أبجديات اليوم التالي العربي..ماذا نريد؟

لقد درج سؤال دائم وبالذات على لسان وأقلام "الماركسيين"، كلما كانت الضرورة تفرض ذلك، وهو سؤال صحيح بالمناسبة: ما العمل؟ وفي كل مرة يعاد إنتاج ذات السؤال؛ دون أن يصل الجواب إلى مستقره، بحيث نجد أنفسنا أمام ضرورة طرح سؤال أولي، وهو: ماذا نريد؟ يقف خلف سؤال: ماذا نريد؟ تحديد لسؤالين من نحن؟ وماذا نُمثل؟ وهذين السؤالين لا يمكن موضعتهما بشكل صحيح والوقوف على إجابات سليمة لهما، إلا من بوابة فهم خصوصية "فلسطين" التي على ما يبدو وكما تقول مجمل الأحداث الجارية؛ تحتاج لإعادة موضعة فكرية – سياسية في مكانها الصحيح الذي عبثت به؛ عبثية الأفكار والممارسة، كما دور الأعداء في ذلك، حيث تؤكد الحصيلة التاريخية - الإجمالية للصراع على سلامة الأطروحة التي تذهب نحو تلازم السيرورة الفلسطينية مع سيرورة الوضع/"المشروع" العربي، وبمقدار ما يعكس هذا القول الواقع المحقق المنسجم ومكانة فلسطين في حياة العرب ومكانة العرب في حياة الفلسطينيين، فإنه يُظهر الأساس الموضوعي الذي استمد منه الحق الفلسطيني أطروحته القوية التي أعادته إلى مركز الصدارة/المركز، ليس عربيًا فحسب، بل أمميًا أيضًا، في مواجهة أطروحة مضادة كانت ترى العكس ونمت على تدرج لتندفع نحو الأمام بقوة الهزائم التي لم تنتج هزائم عسكرية – سياسية فحسب، بل التباسات فكرية، ربما كانت في نتائجها البعيدة أخطر من الهزائم العسكرية – السياسية أيضًا. 
إن الحديث عن أطروحتين سياسيتين، هو في جوهر الأمر، حديث من ناحية عن أطروحة تاريخية؛ عكست وتعكس واقع فلسطين والقضية الفلسطينية موضوعيًا ومن ناحية أخرى؛ حديث عن أطروحة لا تاريخية ومن طبيعة تكتيكية؛ اعتمدت على أخطاء عملية للأطروحة الأولى، أكثر مما شكلت نظرية جديدة أصيلة للصراع وبديلًا متماسكًا للأطروحة الأولى. 
وبكلمة أخرى؛ قامت الأطروحة التاريخية على حفظ التناقض الرئيسي واحترام منطقه، في حين استثمرت الأطروحة التكتيكية على نحو فظ في التناقضات الثانوية، إن بين أطراف "المشروع" القومي أو البُعد المَرضي في العلاقات بين الوضع العربي ككل والفلسطينيين والذي أخذ لاحقًا شعار "القرار الوطني المستقل"؛ المبني على شعار "عدم التدخل في الشؤون العربية"، والذي استثمر تاريخيًا في شعار "يا وحدنا". لذا، لم يكن غريبًا أن تتوزع ممارسات الأطروحة التكتيكية وفقًا لاعتبارات فئوية - ضيقة، إن لم تكن صفيقة؛ حد الخديعة، حيث نجد الشيء ونقيضه في خطاب فضفاض يُلبي طلبات الجميع ورغباتهم ويتكئ على توليفه فكرية قادرة على تلبية اعتبارات الإعلام والمزاج الشعبوي؛ أكثر مما تعكس حقيقة التناقض الذي كان على أي أطروحة أن تقدم رؤية بشأنه. لقد جرى استبدال "النظرية" بـ "الانتهازية" والتكيف الذي وصل حد إعادة إنتاج الذات وأسس مشروعية سياسية وخطاب يقوم أساسًا على القطع مع العرب والحرب الرسمية والسعي للتسوية... وصولًا لإهدار/اغتيال منظمة التحرير الفلسطينية، وتحويلها إلى مجرد "ختم" في قطار التسوية الأمريكية - الصهيونية. 
كل ما سبق، لم يكن له أن يحصل، لولا أنه وعلى طول المسافة الممتدة منذ سنة 1948 – على الأقل - عمل الحلف المعادي بكامل أسمائه: الاستعمار والإمبريالية والصهيونية وربيبتها "إسرائيل" والرجعية العربية/أنظمة سايكس بيكو/الصهاينة العرب، من تصفية الحساب مع أخطر نتائج حرب 1948، أي احتلال فلسطين لحياة العرب ووجدانهم، بحيث صار الهدف: تحرير العرب من فلسطين، بعد أن كان الهدف سابقًا منع العرب من تحرير فلسطين. 
ما تقدم تقاطع موضوعيًا مع أطروحة كانت موجودة قبل هزيمة 1967، ولكنها استفادت من الهزيمة لتُحولَ نزعة الشك إلى نوع من العلاقة المرضية - الثأرية بين العرب والفلسطينيين، وعلى قاعدة الخلط بين المبدأ وبين الفشل في تجسيده، بين فشل العرب في تصحيح خطأ التاريخ مع فلسطين وبها، وبين نجاح العدو في توسيع خطأ التاريخ ومد مساحة فلسطين - المأساة نحو مدى عربي أكبر بكثير من فلسطين الجغرافيا. 
لقد أثبتت معركة طوفان الأقصى، وحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد قطاع غزة؛ صمود الأطروحة التاريخية؛ المرتبطة بالحصيلة التاريخية لخبرة الصراع في المنطقة وعليها، والتي صارت قانونًا عامًا لم يخرج عنه تطور الأحداث يومًا من الأيام وحتى اللحظة، ورغم كل الضباب الكثيف، فهناك ما يؤكد حقيقة واضحة وهي تلازم الخط الهابط لوضع القضية الفلسطينية، مع الانحطاط المتفشي في الحالة العربية، وعلى الجانب الآخر، فإن صمودًا أو انجازًا أو اشتباكًا أو هجومًا أو دفاعًا هنا أو هناك يكاد يكون مرتبطًا بدرجة عودة الحياة للروح العربية، وهنا موقع فلسطين المطلوب تصفيتها، كي يتم القبض النهائي على روحها المتلازمة مع عروبتها. 
من المهم هنا التأكيد بأن الأطروحة، ليست مسألة ديباجات لغوية، بل وعي لعناصر قسرية/موضوعية، يجب أن تُلحظ على نحو نظري وعملي. وبكلمة أخرى؛ فإننا لا نملك حق تلفيق عناصر الأطروحة كما نشاء، لأنها ملك الوقائع التي تصنع الفكرة - الرؤية - الأطروحة - المواقف... الخ؛ بصناعتها من حروف الواقع وعلى نحو صائب، قبل أن تصاغ بحروف اللغة وعليه؛ فإننا حين نقرر سلامة الأطروحة الفلسطينية ربطًا بالعلاقة الصحيحة أو الصحيّة بين العرب وفلسطين، فإننا في الجوهر نقول بعلاقة صحيحة/ صحيّة/ طبيعية مع الذات ومع الواقع وحقائق الصراع. 
لا يقوم القول السابق على افتراضات نظرية، ولا تتوقف مترتباته على سقوط أطروحة أو فكرة وصدقية أخرى، بل على واقع محقق له كلفة عالية جدًا؛ بكون الأطروحة توضع لتُنفذ في حيز الواقع الذي يعطي نتائج سلبية أو ايجابية؛ ربطًا بكيفية التعامل معه، وحين تسود علاقة غير صحيّة وغير صحيحة وغير طبيعية، فليس من الغرابة بشيء أن نكون أمام نتائج شاذة/مخالفة للرغبات الأصلية والتي نجد ترجمة حيّة لها في نقطة وصلها العمل السياسي الفلسطيني، تكاد تكون مخالفة كليًا للنقطة/الهدف الذي أراده عند البدء وهذا هو الشذوذ بعينه. 
إن السؤال والحال هذه، يصبح حول لماذا عجزنا عن الارتقاء بالأطروحة والتجربة عبر تعميقها وتجذيرها، رغم أنها كانت قد وصلت إلى نقطة متقدمة؟ 
لا مجال هنا، لجواب صائب إلا عبر إعادة وضع المسائل على نحو أكثر دقة؛ فلقد اقتصرت النقطة المتقدمة محل الحديث على أطروحة نظرية وسياسية وتنظيمية؛ أكثر احترامًا لطبيعة الصراع وحقائق الواقع والوعي الذي صاغته التجربة الحسية، ولكنها لم تنضج على نحو كافٍ؛ فكريًا ومنهجيًا، بحيث تستطيع حماية أطروحتها في وجه الرياح العاتية التي هبت بفعل تكرار الهزائم، لذا وبدلًا من التجذر ووعي الوعي عبر المراجعة وإعادة التفكير، كان ما كان من ضياع فكري؛ يكمن خلف تلك الأزمات والتناقضات والانقسامات التي عاشتها الحركة الوطنية الفلسطينية وتجربتها المديدة، والتي كانت ستصل في 7 أكتوبر إلى انكشاف مأزقها التاريخي والذي وعيه، سيوصل حتمًا إلى أبجديات اليوم التالي العربي، وفي قلبه الفلسطيني والذي إما أن يكون يومًا ثوريًا أو لا يكون.

نشرت هذه الدراسة: في مجلة الهدف عدد تشرين أول/أكتوبر رقم (1538)  بالتسلسل العام (64) رقميًا